روايات

رواية خطايا بريئة الفصل التاسع عشر 19 بقلم ميرا كرم

رواية خطايا بريئة الفصل التاسع عشر 19 بقلم ميرا كرم

رواية خطايا بريئة الجزء التاسع عشر

رواية خطايا بريئة البارت التاسع عشر

رواية خطايا بريئة
رواية خطايا بريئة

رواية خطايا بريئة الحلقة التاسعة عشر

ليس من الصعب أن تعثر على الحقيقة، و لكن المشكلة الكبرى هي ألا تحاول الهروب منها إذا وجدتها

– إتيان جلسوت

—————-

مرت ساعات النهار الأولى وهي نائمة كمدًا لم تشعر بشيء غير انها تود أن تمنح عقلها هُدنة ليستعيد عمله، رفرفت بأهدابها الكثيفة بتثاقل شديد تحاول أن تستفيق بالكامل وتنهض ولكن كان الأمر عسير عليها و الصداع يفتك برأسها وعينها متورمة أثر بكاء أمس فكانت تنتحب إلى أن غلبها النوم من شدة الوهن بين احضان “ثريا” التي ظلت ملازمة لها طوال الليل ولم تتركها إلا عندما تأكدت أنها بخير

مسدت جبهتها لعلها تخفف من حدة ألم رأسها ولكن بلا جدوى تحاملت على ذاتها كي تنهض من الفراش وأخذت عيناها تدور بمحيط غرفتها وهي تنعي وحدتها فكم كانت تأمل ان تستيقظ وتجد أحد بجانبها يطمئنها ويخبرها أن كل ما حدث ما هو إلا كابوس مزعج يستحيل تحقيقه وأن كل شيء سيكون على مايرام وعلى ذكر الحاجة لم يأتي أحد بخاطرها سواه لتجد عيناها تتركز على ذلك المقعد القريب ببأس شديد وبعيون حزينة ذابلة تتذكر حين كانت تجده في السابق يجلس عليه يطالعها بتلك البسمة الهادئة المريحة التي تقطر بمكنون قلبه حقًا هي بآمس الحاجة له ولكن اين هو؟ فقد تبدل حاله بفضل أفعالها ورغم أن مازالت هواجس عقلها لم تتبدد نهائي إلا أن حاجتها له في كل وقت عصيب يمر عليها أكدت لها أنها تكن له الكثير ولم تملك الجرأة ليومنا هذا كي تعترف بذلك، حاولت نفض افكارها وهي تنهض من الفراش تعاند تلك الحرب الضارية التي تود أن تنشب من جديد بداخلها و

قبل أن تخطو خطوة واحدة

لفت نظرها ذلك المغلف الكبير الموضوع أعلى الكمومود بجانب فطورها، مدت يدها تسحبه لتجد ورقة بخط يد “ثريا” تعتليه وتخبرها بها أن ذهبت للاطمئنان عن “رهف” وان ذلك المغلف يحتوي على إثبات حديثها

وعليها أن تطلع عليه، وبالفعل ذلك ما فعلته فقد فضت محتواه على الفراش وأخذت تتناول كل ورقة على حدى تمرر عيناها على محتواها، واحدة تلو أخرى برويه شديدة و حينها تملكتها صدمة عارمة فقد وجدت فحوصات طبية بأسم والدتها وتقارير توضح حالتها لا والأنكى أن يوجد تقرير موثوقة من طبيب نفسي يؤكد إصابتها بإكتئاب حاد بتاريخ مسبق لوفاتها بعدة أشهر…

كل ذلك كان بمثابة انتفاضة لعقلها واختزال قوي لهواجسها البالية؛ فبين يدها دلائل قاطعة لا تقبل الشك مطلقًا.

فقد حاوطت رأسها وانهمرت دمعاتها البائسة وأخذت تهز رأسها وكأنها تدعم استيقاظ عقلها من غفوته ومداهمته لها بتلك التساؤلات دون هوادة.

هل مقتها لهم كان هباءً؟

هل حقًا نواياهم نحوها كانت بريئة؟

هل تلك السيدة التي حقدت عليها طوال سنوات كانت ضحية ظنونها وهواجسها الواهية

فهل تلوم ذاتها أم تلوم والدتها على قرارها المجحف الذي شتتها وجعل الشيطان يعبث برأسها لسنوات، حقًا كانت ضائعة تنهمر دمعاتها ببأس لا مثيل له فليس من اليسير عليها أن تقتنع كون كل قناعتها السابقة بالية و كانت جميعها لا محل لها.

———————

علمت من”يامن” أنها تركت منزلها وتقبع مع “سعاد” بمنزلها القديم لذلك توجهت إلى هناك كي تطمئن عليها ولكن عندما وصلت لهناك وطرقت على باب الشقة عدة مرات لم يأتيها جواب وحينها أحتل القلق قلبها وكادت تخرج الهاتف من حقيبتها كي تهاتفها ولكن صوت الحارس أنبهها:

-الست”سعاد” مش هنا

=خرجوا يعني؟

-لأ يا ست هانم دول في المستشفى من ليلة إمبارح والست “رهف” كانت بعافية

لطمت”ثريا” اعلى صدرها وتساءلت بجذع:

-يالهوي…”رهف”…طب مستشفى ايه وانا أروحلها

أجابها الحارس:

-والله يا ست هانم ما اعرف بس ست “كريمة” جارتهم اكيد عارفة علشان ابنها الدكتور هو اللي وداهم هناك وحتى الولاد الصغار عندها

=تعالى وصلني لشقتها

أومأ لها بطاعة واتبعها لهناك لتخبرها “كريمة” بكل شيء وتطمئنها على الأطفال أنهم بامانتها لحين عودتهم لتذهب “ثريا” بعدها للمشفى بعد أن هاتفت “يامن” وأخبرته بتعب “رهف” لكن دون ذكر تفاصيل واوصته أن يترك عمله ويعود للمنزل كي ينوب عنها برعاية “نادين” فهي بحاجته الآن دون عن أي وقت سبق.

——————–
أما عن ذلك الساخط فقد كان يتعالى رنين هاتفه مرة بعد مرة وفي كل مرة يتعمد أن لا يجيب مما جعلها تزفر حانقة وتصيح به:

-يوووه تليفونك ده صدعني مش معقول كده ماترد يمكن حاجة ضروري

لوح “حسن” بيده وأخبرها ببسمة ماكرة وهو يتأمل رقم “يامن” الظاهر على شاشته يظن أنه يهاتفه كي يعتذر منه غافل كونه يريد أن يعلمه بشأن زوجته ولكن الأخر كان الأمر أبعد ما يكون عن تفكيره لدرجة أنه ألقى بالهاتف على المقعد بجانبه دون أي أهمية لتجلس هى على ساقيه و تتعلق بعنقه متسائلة بخبث كي تسبر أغواره:

-مالك يا “سُونة” انت من ساعة ما رجعنا وأنت مش طبيعي خالص معقول كل ده بسبب الشغل

تنهد بعمق وأخبرها وهو يداعب وجنتها ببسمة باهتة كي يسايرها:

-أنا عارف إني قطعت شهر العسل بس اوعدك هعوضك وهاخدك أي مكان تشاوري عليه بس كام يوم كده أخلص من مشاكل الشغل

أومأت له وقالت بدلال أنثوي ماكر وبنظرات معاتبة:

-لما أشوف يا “سُونة” أصلك بصراحة بقيت بتوعد ومبتوفيش

يعني قولتلي هنسيكِ أسمك ومش هنشغل عنك وأديك اهو سبتني أمبارح لوحدي ولما جيت بليل كنت متعصب ونمت علطول

حقًا أخر ما ينقصه هي فلم يستطيع مسايرتها أكثر لذلك هدر متأفف:

-يوووووه خلاص بقى يا “منار” أنا مخنوق و مش ناقصك

تفاجأت من حدته الغير مبررة معها ولكنها تداركت الأمر بدهاء حين مالت عليه وحاوطت وجنته وقالت بنبرة مفعمة بالدلال تعلم تأثيرها عليه:

-بس أنا ناقصاك يا “سُونة” وعايزاك…وعندي استعداد انسيك كل اللي مضايقك

تفهم إلى ماذا ترمي فما كان منه غير أن يتفرس بها وبلابسها التي تظهر أمام عينه اكثر مما تخفي فغامت بالرغبة لتوها حين بادرت هي بتقبيله… ليجد ذاته كالمغيب و يبادلها ولكن كانت قبلته لا تعرف اللطف ابدًا فكانت قبلة عنيفة آلمتها و سلبتها أنفاسها غافلة كون عقله ليس معها بل مع الأخرى و يتخذها هي وسيلة كي يفرغ بها شحنة غضبه من تلك التي يظنها خبيثة وخدعته وهي أبعد ما يكون عن الخداع.

دفعته هي بصدره بعنف عندما زادت قسوته وتعدى حدود احتمالها وصرخت به وهي تتلمس شفاهها :

-انت اتجننت ايه اللي حصلك!

مرر يده بخصلاته بعصبية بعدما نظر لشفاهها المدمية وقال بأنفاس ثائرة وبكل تبجح:

-قولتلك مش في المود وأنت اللي اصريتي اتحملي بقى

جعدت حاجبيها من تبجحه وقالت بغيظ شديد وبنبرة واثقة وهي ترفع سبابتها بوجه :

-أنت أيه الأسلوب الغريب ده المفروض تعتذر على الأقل، مش انا اللي اتعامل كده

واعمل حسابك أخر مرة هسمحلك تعاملني بالوحشية دي

ذلك آخر ما قالته قبل أن تتركه يستشيط غضبًا من كل شيء حوله ويركل أحد المقاعد بقدمه ويدور حول نفسه وهو يشعر انه على حافة الجنون إلى أن تعالى رنين الهاتف مرة أخرى، ليتناوله ويرد بنبرة متعجرفة خالية من أي لباقة:

-عايز ايه انت كمان ؟

لهنيهة لم يأتيه رد حتى ظن أنه أغلق الخط ولكن الأخر كان يحاول تحجيم اعصابه قدر المستطاع فالغرض من مهاتفته هو إرضاء ضميره ليس أكثر لذلك قال بإقتضاب ومن بين أسنانه:

– وانت اللي زيك بيتعاز منه أيه يا بجح…انا مش هعاتبك دلوقتي أنا بس بكلمك علشان ارضي ضميري واعمل بأصلي؛ مراتك تعبانة و في المستشفى من امبارح

احتدت نظرات “حسن” وتساءل باستخفاف:

-مستشفى ايه وتعبانة مالها ما كانت مِفرعنة امبارح؟

اجابه “يامن” بنفاذ صبر:

-مستشفى (…….) و معرفش حاجة تانية…سلام

ذلك أخر ما تفوه به قبل ان يغلق الهاتف بوجهه مما جعل “حسن” يستشيط غيظًا منه وهو يأخذ متعلقاته ويهرول ليذهب لها تارك شيطانه اللعين يحيك برأسه العديد من السيناريوهات

—————

لم تنبس ببنت شفة فقط دمعاتها تنسل من عيناها دون أي رد فعل يذكر حاولت “سعاد” و “ثريا”التخفيف عنها ومواساتها ولكنها لم تنتبه لكلمة واحدة منهم بل كانت ساهمة بعيون فارغة وكأنها فقدت كافة شغف الحياه بعد خسارتها.

-“رهف” علشان خاطري بلاش تعملي في نفسك كده…طب ردي عليا او عيطتي وخففي حمولة قلبك هترتاحي

قالتها “سعاد “بمحاولة بائسة منها أن تجعلها تخرج عن حالة الجمود تلك ولكن بلا فائدة فلم تجيبها، لتغمغم “ثريا” بأسى وبملامح متهدلة شديدة الحزن:

-لا حول ولا قوة إلا بالله كان مستخبيلك فين ده بس يا بنتي

لتعقب “سعاد” بحمئةٍ:

-أبن أختك هو سبب كل ده منه لله ربنا ينتقم منه

نكست “ثريا” رأسها ولم تجد حديث مناسب ترد به لذلك ألتزمت الصمت وايضًا “سعاد” التي كان يصعب عليها رؤية رفيقتها بتلك الحالة وكم تمنت لو تستطيع أن تخفف عنها …

كان ذلك الصمت الذي ساد أجواء الغرفة ما هو إلا هدوء ما قبل العاصفة فقد شهقوا بقوة مفزوعين عندما اندفع الباب وظهر ذلك الساخط قائلًا بحمئة ليست ابدًا بمحلها:

-عملتيها يا “رهف” ونزلتي اللي بطنك وفكرك هتخلصي مني

ده انا هسود عيشتك

اندفعت “سعاد” كي تردعه عنها صارخة وهي تدفعه بصدره:

-أبعد عنها مكفكش اللي حصلها بسببك… منك لله

دفعها عنه بغل قائلًا بوعيد احمق وهو يحاول أن يتهجم على تلك المسكينة التي لا حول لها ولا قوة:

-هي لسة مشافتش حاجة مني وانا هعرفها ازاي تعند معايا

لتدخل “ثريا” ناهرة إياه:

-اتهد بقى هتعمل فيها أيه أكتر من اللي عملته

اشتد الحوار بينهم ما بين لوم و وعيد غافلين كونها تخلت عن حالة الجمود التي عليها بمجرد رؤيته وكأنها استوعبت الأمر الأن فقد تعالت وتيرة انفاسها واتسعت عيناها بهلع عندما مر ذلك المشهد الأليم وهو يدفعها ويهددها أمام عيناها من جديد لتنطلق صرخة حارقة متألمة من أعماقها الممزقة و تضع يدها على وجهها تخفي عيونها وتهز رأسها بطريقة هستيرية وكأنها فقدت صوابها صارخة بكامل صوتها:

-مش عايزة أشوفك…ابعد عني بكرهك …بكرهك…بكرهك

في تلك الأثناء كان “نضال” في طريقه لمغادرة المشفى بعد انتهاء وقت عمله ولكن تناهى إلى مسامعه صراخ يصدر من غرفتها ليهرول لهناك ويصيح بحده ما أن رأى حالة الانهيار التي هي عليها وتجمهر بعض العاملين أمام باب الغرفة يحاولون ردعه الأخر:

– هو في ايه بالظبط انت فاكر نفسك في بيتكم دي مستشفى يا استاذ يا محترم وميصحش تعلي صوتك ولا تتصرف بالهمجية دي

أجابه “حسن” بتبجح وهو يزيح بيده أحد العاملين الذين يحيلون بينهم:

-أنت مالك انت انا ازعق في المكان اللي يعجبني وبعدين الهانم اللي قدامك دي مراتي وسقطت من غير علمي وانا عايز المسؤول هنا علشان هخربها على دماغكم كلكم

تجهمت معالم “نضال” وهو ينظر له نظرة مشمئزة مستنفرة وهدر بإنفعال:

-مراتك سقطت بسبب تعنيفك ليها وده اللي هكتبه في التقرير الطبي ده غير محاولتك دلوقتي بالتعدي عليها

تجاهل ذلك الوعيد المبطن بحديثه ولم يفكر سوى بجملة تعنيفك لها مما جعله يعقد حاجبيه ويتسأل بعدم استيعاب:

-يعني ايه مش فاهم؟

لوح” نضال” بيده وتوجه لها وقال بصوت جهوري للممرضين الذين هرولوا على صوت صراخها ولم يتمكنوا من تهدئتها:

-حد يجبلي حقنة مهدئة واقفين تتفرجوا على أيه!

وبلغو الأمن يطلعوا الأستاذ ده بره

احتدت نظرات “حسن” بغيظ وهدر معترضًا:

-انا مش هتحرك من هنا غير لما أفهم

أجابته “سعاد” بنفاذ صبر وبهجوم شرس:

-انت هتستهبل كل اللي حصلها ده بسببك “رهف” سقطت لما زقتها أنت السبب في إجهاض البيبي…

نزل حديثها عليه كالصاعقة، وفرغم أنه لم يسعد بخبر حملها ولكنه لم يتعمد ابدًا أن يكون سبب في خسارته.

فقد أبتلع رمقه بحلق جاف وزاغت نظراته بين تلك المسكينة التي تنتحب وتصرخ به كي يغادر وبين الجميع ثم تراجع عدة خطوات للخلف وكأن الأرض تميد به تزامنًا مع صراخها المتكرر الذي رج أرجاء المشفى:

-أخرج مش عايزة اشوفك تاني بكرهك يا”حسن” …بكرهك وعمري ما هسمحك…

نظر لانهيارها بعيون زائغة وبقايا ضميره ينهش به يخبره أنه بفعلته تلك قد يخسرها للأبد لذلك برر قائلًا بنبرة مهزوزة متلجلجة:

-“رهف”… انا مكنش قصدي…

لتدخل “ثريا” آمرة إياه بحده:

-مش وقته الكلام ده امشي البِنية مش طايقة تشوفك

=يا خالتي انا مكنش قصدي هي اللي استفزتني وقتها و….

كاد يستأنف تبريره المقيت وكعادته يحمل تلك المسكينة عبء ما حدث لولآ أن “ثريا” قاطعته بحدة وبنبرة صارمة:

-اخرس ومتفتحش بؤك ومن النهاردة تنسى أن ليك خالة والمسكينة دي ذنبها في رقبتك و ربنا اسمه العدل وهينتقملها منك علشان انت خسيس و متستاهلش ضفرها

مرر يده بخصلاته وهو يشعر بأن الدماء تغلي برأسه ويعجز عن التفكير ليمنح انهيارها نظرة مطولة وشيء من بقايا ضميره ينهش به فلم يتوقع في أسوء كوابيسه أن يتوصل به الأمر لهنا. ليسعفه عقله العقيم ويتدخل شيطانه كعادته ويبرر له أنها هي من استفزته وجعلته يفقد سيطرته على ذاته لذلك الحد الذي جعله يتسرع ويدفعها دون أن يفكر في عقبات للأمر

قطع تفكيره تكرار “نضال” وهو يحاول جاهدًا أن يسيطر على حالة تشنج جسدها كي يوخزها بإبرة المهدئ ولكن كان الأمر عسير عليه فكانت نظراتها الكارهة مصوبة نحو ذلك المقيت وتصرخ بحرقة لا مثيل لها:

-قولت طلعوه بره علشان تهدى

كان يود أن يعترض من جديد لولا أن “ثريا” زجرته وحثته على المغادرة ليهز رأسه بمسايرة ويقول وأحد أفراد الأمن يقبض على ذراعه:

-تمام همشي بس برضو مش هتعرفي تخلصي مني يا “رهف” وهرجعلك تاني

دفعه اثنان من أفراد الأمن للخارج فلم يقاومهم بل تركهم يسيروا به خارج المشفى دون أي مقاومة وكأنه هو من طمح بالهروب وقد ساعدوه دون أن يشعروا

بينما هي خار جسدها ومقاومتها تدرجيًا مع تسربل العقار الطبي بوريدها وتهدلت جفونها ساقطة في حالة من السبات المؤقت

وعندما اطمئن الجميع عليها اجتمعت “سعاد” ب “نضال” بمكتبه وهي تنوي أن تتخذ إجراء رادع لذلك المقيت كي تحمي ابنة عمها من بطشه.

——————–

-يالهوي هي حصلت جيبلي نسوان البيت يا “محمد”

قالتها “شهد” بتسرع عندما سحبها “محمد” لأحد الغرف الجانبية بعدما دلف ب”ميرال” من باب شقتهم وترك الصغيرة هي من تستقبلها

كتم “محمد” فمها بكف يده كي لا تتفوه بالمزيد ناهرًا إياها بحده:

-انا قولت مجنونة …نسوان مين يا “شهد”عيب عليكِ هو اخوكِ بتاع الكلام الفارغ ده اهدي علشان أفهمك

اومأت له بعيون متسعة وما أن زحزح يده عن فمها قالت بتسرع دون تفكير:

-تفهمني ايه…اوعى تكون ضارب ورقتين عرفي وجاي هنا لأ البيت ده طاهر وهيفضل طول عمره طاهر

نفخ “محمد” أوداجه وباغتها بقرص اذنها قائلًا بغيظ وهو يجذبها منها:

-اتكتمي الله يخرب بيتك ايه اللي بتقوليه ده

تأوهت بقوة وجذبت راسها كي يفلت اذنها قائلة بألم:

-ودني هتطلع في ايدك وبعدين اعملك ايه ما هي ملهاش تفسير غير كده

أجابها بنبرة جدية وهو يخفف ضمة أنامله على أذنها شيء فشيء:

-لأ ليها بس اتهدي واسمعي وشغلي عقلك الأول

هزت رأسها تحثه على تركها وكتمت بيدها فمها كي تقنعه أنها ستستمع له، ليتنهد هو ويترك اذنها ويقول بنبرة هادئة حاول أن يخفي بها ارتباكه:

-دي بنت الراجل اللي شغال عنده

دماغك مترحش لبعيد كل الحكاية أنها كانت عايزة تشوف “طمطم” وتتعرف عليكِ

تساءلت” شهد” بحاجب مندهش:

-وهي تعرفنا منين؟

أجابها “محمد” وقد بدأ الارتباك يسيطر عليه:

-كنت واخد بنتك الملاهي وكانت معانا…

شهقت “شهد”بتفاجئ وقالت ببسمة واسعة:

-يعني دي “ميرال” اللي البت “طمطم” حكتلي عليها طب ما تقول كده من الصبح

أومأ لها بتأكيد وأضاف برجاء محسوس:

-علشان خاطري يا “شهد” استقبليها كويس ورحبي بيها وبلاش جنانك ده

تنهدت “شهد” وأجابته وهي تضيق عيناها:

-من عيوني يا اخويا انت تأمر بس لو طلعت معوجة ومناخرها في السما هكرشك أنت وهي و”طمطم” ذات نفسها

هز رأسه بلا فائدة وقال مشاكسًا وهو يسحبها من مؤخرة ملابسها كي تستقبل ضيفته:

-لا من الناحية دي انا مطمن…انجري بقى قدامي يا مجنونة اتأخرنا عليها وعيب كده.

—————–

عاد كما اخبرته والدته وهو يستغرب لمَ طلبت منه ذلك الطلب الغريب في ذلك التوقيت بالذات ولمَ أصرت عليه بالهاتف أن يظل بجوارها، لمَ قالت له أنها بحاجته الآن! فمنذ متى وهي تكون بحاجته هي لم تلقِ بال له من الأساس وإن كانت تفعل لم تكن ارتكبت تلك الأفعال المشينة بحق والدته وبحقه،

تنهد بعمق عندما تناهى إلى مسامعه صوت بكاءها وأخذ يجول بعينه في محيط المنزل يبحث عنها ليزفر بقوة كي يمهد ذاته لأحد حيلها التي يظن أنها تفتعلها كي تؤثر عليه وتجعله يحيد عن قراراته ويتبع الصوت وصولًا لمرحاض غرفة والدته استغرب ما الذي أتى بها هنا ولكنه طرق على الباب وقال بجمود أصبح يتقمصه بالآونة الأخيرة معها:

-“نادين” اخرجي؟ انا عارف انك بتمثلي وعارف انك أنتِ اللي خليتي أمي تكلمني

لثوان سكت صوت نحيبها وظن أنه نجح في كشف حيلتها وقبل أن يدرك الأمر كاملًا اتاه صوت فوضى بالداخل لم يخمن مصدرها وقبل أن يستكشف الأمر بنفسه فتحت هي الباب برأس مطرقة وحاولت أن تتخطاه، نظرة خاطفة بالداخل لأرضية المرحاض كانت كفيلة أن تجعله يجن جنونه ويظن كونها كان تود أن تلحق بنفس مصير والدتها ليهرول خلفها يجذبها من ذراعها صارخًا بحدة:

-كنتِ بتحاولي تعملي ايه؟

حمت وجهها بذراعها الآخر تخوفًا أن تنال أحد صفعاته وهزت رأسها كونها لم تفعل شيء، وغر قلبه عندما فعلت ذلك وكم لعن ذاته كونه جعلها تخاف بطشه لهذا الحد فحقًا هو الأن نادم كونه شيد بيده عائق أخر يجعلها تتحامل عليه وتنفر منه، ليبتلع غصة مريرة بحلقه وتتهدل ملامحه و ينظر لها بعيون اندثر جمودها و تسربل بها الدفء من جديد حين ترك ذراعيها وتسأل:

-امال علب الدوا اللي في الأرض دي ايه؟

انزلت يدها بترقب ثم أجابته بنبرة مختنقة وبعيون منكسرة واهنة تفر منها دمعات متباطئة:

-عندي صُداع وكنت بدور على حاجة تضيعه بس ملقتش…ولما أنت خبطت العلب وقعت من ايدي على الأرض

الإنكسار الذي كان يظهر جليًا على هيئتها وعيونها الدامية التي تأكد كون بكائها استمر لوقت كبير وغير مفتعل وجعل قلبه يتوسله كي يعود ل لينه ويرأف بها، وقبل ان يصدر منه كلمة واحدة كانت تتحرك بتؤدة مبتعدة عنه وهي تمسد جبهتها وتسير نحو غرفتها،

ليتنهد هو تنهيدات عميقة مثقلة ويرفع نظراته لأعلى وكأنه يناجي ربه كي يعينه على نكبة قلبه.

أما هي فبعد عدة دقائق كانت تجلس على طرف فراشها وهي تشعر بالخزي من ذاتها بعدما رأت بأم عيناها كيف أصبح يشكك بكل افعالها بسبب غباءها، نكست رأسها وأغمضت عيناها تتوسل ذلك الألم أن يحل عنها ولكن كان يشتد ويشتد لدرجة انها وجدت دمعاتها تفر متألمة معها، يده الممدودة جعلتها تنتبه لوجوده معها بالغرفة فقد رفعت نظراتها الباكية إليه حين صدر صوته ذات البحة المميزة الذي يزعزع ثباتها قائلًا:

-جبتلك حبوب مُسكنة هتريحك وعملتك قهوة …

هزت رأسها بأمتنان وتناولت الحبوب اولًا من يده ووضعت اثنان منها بفمها ثم ارتشفت بعدها الماء، اخذ هو الكوب من يدها حين انتهت ثم أعطاها قدح القهوة لترفعه هي على فمها ترتشف منه بضع رشفات صغيرة مستمتعة فكم اشتاقت القهوة الممزوجة بالحليب من صنع يده، بينما هو توجه يغلق ستائر الغرفة كي يكبح حدة الضوء عن عيناها ويساعدها على تخطي الألم ثم ذهب واغلق نور الغرفة وقبل أن تصيح وتذكره انها تكره الظلام وتكره أن تكون بمفردها به شعرت به يجلس خلفها على طرف الفراش ويده أخذت طريقها لمؤخرة عنقها يدلكها بحركات دائرية حسية تعرف كيف تصل لمراكز الألم، بينما هي أغمضت عيناها بقوة واستسلمت لمحاولته في مساعدتها ورغم أن الصُداع مازال يفتك بها إلا أن لمساته الحانية جعلتها تستجمع شجعتها وتهمس بأسمه بنبرة مغلفة بالاحتياج جعلت طبول قلبه تقرع من أجلها:

-“يامن”…

لم يمنحها فرصة لقول شيء بل قاطعها بنبرة حانية مطمئنة افتقدتها منه بشدة:

-ششششش متتكلميش …مش وقت كلام وحاولي ترخي اعصابك هتبقي أحسن

هزت رأسها بطاعة جعلته يتنهد تنهيدة ثقيلة محملة بالكثير وهو يستمر بما يفعله إلى أن سَكن الألم وحل محله الطمأنينة التي عبرت عنها دون كلمات حين تراجعت بجسدها حتى جعلته يلتصق بجذع الفراش ومالت برأسها على صدره العريض تود أن تستمع لدقات قلبه كي تتأكد كونها مازالت تنتمي لها، ثم تشبثت به بقوة وانكمشت بين أحضانه وكأنها مازالت تلك الطفلة الصغيرة صاحبة الضفائر الطويلة التي كلما فعلت كارثة او افتعلت شيء خاطئ تفر إليه وتستنجد به وكأنها كانت لا تدرك مسبقًا كونه هو مأواها الحصين ومصدر أمانها وأدركت ذلك الآن فقط، بينما هو دون حاجته لأسبابها فكان دائمًا وابدًا يعشق ذلك الشعور التي منحته اياه الأن دون مجهود منه كالسابق فطالما كان يتعمد أن يرهبها كي يناله منها، ولكن بعد أن حمت وجهها اليوم وتخوفت من بطشه أقسم أنه لن يرهبها بعد الأن ولن يقسوا عليها مرة أخرى مهما فعلت سيتركها هي من تقرر كل شيء فإن أرادت ملجأه تأتي له كما حدث الأن بكامل ارادتها .

————————

كانت ساهمة وكأنه أتى بها لعالم موازي لا يمت لعالمها بشيء فكانت نظراتها منبهرة تتأمل كل شيء بتمعن شديد بدءٍ من منطقتهم الشعبية التي تضج بالضجيج إلى كل ركن تقع عيناها عليه بمنزلهم المتواضع فكان الأثاث والفرش رغم بساطته إلا انه اشعرها براحة غريبة ودفء لم تشعر به قط بقصر أبيها

-ما تاكلي يا “ميرال” ولا اكلي مش عجبك

قالتها “شهد” وهي تقدم لها الطعام بحفاوة كبيرة و بترحاب اشعرها بالألفة وانتمائها لحيث يكون.

لتبتسم بأمتنان و تنفي برأسها وتقول بعفوية:

-لا ابدًا يا “شهد”… تسلم ايدك الأكل طعمه حلو أوي أنا كنت فاكرة “محمد” بيبالغ لما قالي أكلك حلو بس بصراحة طلع معاه حق

تنهدت “شهد” وقالت بمحبة خالصة لأخيها الذي يجلس بجانبها وهي تربت على يده المسنودة على الطاولة:

-ده قلب أخته ومليش في الدنيا غيره وعلطول كده طالع بيا السما ورافع من روحي المعنوية

تناوبت “ميرال” نظراتها بينهم وبين يد شقيقته التي تستقر فوق يده وكم تمنت أن تكون محلها فهي تقسم إن فعلت وتشبثت بها لن تفلتها مداد الدهر ولكن متى، وكيف، وهو يتجاهل كافة تلميحاتها ويتعامل معها بثبات غريب حتى جعلها تظنه متلبد المشاعر و بلا قلب،

كانت تتطلع له أثناء شرودها بطريقة جعلت “شهد” تشعر بالريبة منها وخاصةً عندما وجدت شقيقها يرتبك ويدعي انشغاله بالطعام حين قالت:

-“محمد” جدع وراجل بجد يُعتمد عليه ربنا يخليكم لبعض يا “شهد” وميحرمكوش من بعض ابدًا

اجابتها “شهد” بمجاملة تحمل رسالة مخفية بين طياتها:

-يارب يا حبيبتي … ويرزقك بأبن الحلال اللي بتتمنيه

اندثرت بسمتها لثوانِ و تعلقت عيناها به وكأن كافة امنيتها تختصر عليه ، بينما هو شعر بانقباض قلبه عندما خيل برأسه انتماءها لرجل آخر ليحتج قلبه بين احشائه صارخًا عندما منحته تلك النظرات الناطقة التي تزلزل قاع قلبه وتطيح به ورغم انه قاوم وجاهدًا ذاته كي يخفي ما يختلج بداخله ولكن عينه آبت أن تتهرب منها ككل مرة بل أخذت مداد من بحر عيناها جسر طويل المدى كي يروي قلبه الذي اصبح يهيم بها.

دام تشابك نظراتهم لثوان معدودة قبل أن تدس “شهد” بفمه ملعقة ممتلئة بالأرز قائلة:

-كُل يا حبيبي دي مش اكلتك

تفاجأ من فعلتها لا والأنكى أنه غص بالطعام وسعل بقوة على آثارها، لتشهق “ميرال” وتناوله كوب الماء الموضوع أمامها ويتناوله ويرتشف عدة رشفات منه بينما “شهد” هبت واقفة تضرب على ظهره بقوة قائلة:

-يالهوي يارتني ما نطقت باين عليا حسدتك

زجرها “محمد” كي تكف عن مزاحها وابعدها عنه منزعج:

-يا ستار عليكِ خلاص بقيت كويس وبطلي هزار البوابين ده كُنتِ هتموتيني

لوحت “شهد” بيدها وجلست قائلة وهي تغمز له بعيناها:

-يعني ده جزاتي كنت هتروح في شربة ميه قولت ألحقك

هز رأسه بلا فائدة فهو يعلم ماذا تقصد بحديثها لذلك زجرها وقال ببسمة متوعدة تعلم ما يحل بعدها:

-خلاص يا “شهد “حصل خير بَطلي رغي وكُلي وسيبي الضيفة تاكل

بدل ما أقسم بالله هعلقك زي ما بعلق بنتك في النجفة

قهقت الصغيرة بينما تراجعت “شهد” ومطت فمها وأنبته وهي تدعي الحزن:

-كده يا “حمود” اختك حبيبتك تهون عليك تهزقها قدام المفعوصة دي

حانت منه بسمة مشاكسة وقال بحنان اخوي يكفي العالم أجمع وهو يميل يقبل جبهتها:

-لا متهونيش طبعًا ده انتِ تاج راسي يا ام الاوزعة

امتعض وجه الصغيرة واعترضت وهي تربع يدها بنزق طفولي:

-يوووه أنا مش اوزعه

رفع حاجبيه وقال مشاكسًا وهو ينهض :

-حقك عليا يا ام نص لسان…انا شبعت هقوم اعملكو كوبيتين شاي كُشري أنما أيه عجب

أيدته “شهد” بينما هي تساءلت بكل عفوية:

-شاي وكُشري طب ازاي بتحط بدل السكر عدس و رز

قهقه بكامل صوته وشاركته “شهد” وحتى الصغيرة مما جعلها تشعر بالحرج الشديد وتقول متلعثمة:

-هو يظهر انا فايتني كتير … مش كده!

اجابها هو مشاكسًا:

-كده …بس معذورة أصلك من كوكب تاني بس هفهمك وامري لله هو مش كُشري بالمعنى الحرفي هما سموه كده علشان بيتحط الشاي والسكر وبعدين يتحط عليهم الميا المغلية على البارد كده من غير ما يغلوا مع بعض لكن طعمه شاي عادي زي بتاعكم

أومأت له بتفهم بينما الصغيرة عقبت في لماضة:

-ده انتِ باين عليكِ ابيضة خالص يا طنط “ميرال”ومتعرفيش حاجة

برقت عين “ميرال”وعاتبتها بلطف عفوي وهي تقرصها من وجنتها:

– حتى انتِ يا “طمطم” ده أنا بحبك

مطت الصغيرة فمها وهبت تجلس على ساقيها وتتعلق بعنقها قائلة بتضامن عاطفي:

-وانا كمان بحبك … لتؤشر على “محمد” وتستأنف بخفة:

-هو أبو رجلين طويلة ده هو اللي وِحش وبيغلس علينا كلنا

ضيق عيناه بغيظ وتقدم من جلستها قائلًا وهو يقبض على منكبيها و يرفعها لأعلى تزامنًا مع شهقة “ميرال” ومحاولتها التمسك بها وبين صراخ “شهد”:

-تعالي بقى مين ده ابو رجلين طويلة يا اوزعة يا ام نص لسان ده أنا ساكتلك من الصبح

ردت “طمطم”بشجاعة ليست بمحلها:

-أنت يا “حمود” يا حبيبي أبو رجلين طويلة ومفيش في البيت أطول منك

اعتلى حاجبيه بشقاوة وسار بها رافعها لأعلى بيد وبالأخرى أخذ يدغدغها بها لتقرقر هي ضاحكة وترجوه كي يتوقف بينما هو قال مشاكسًا وبسمته مازالت تزين وجهه:

-هتقولي حرمت ولا اعلقك بدل النجفة

لتصيح الصغيرة مستسلمة:

-حرمت …حرمت مش هعمل كده تاني

لينزلها وتفر لأحضان “ميرال” من جديد قائلة:

-برضو رجليك طويلة

قهقهوا جميعًا على مشاغبتهم سويًا

بينما ضرب هو كف على آخر متمتًا بغيظ:

-ماشى يا طمطم الكلب مش هسيبك غير لما اقصرلك لسانك ده… بقى انا رجليا طويلة …ولا التانية اللي بتقولي عدس ورز وبتقولي فايتك كتير ده فاضل شوية وتقولي متنساش الكمالة وبتزعل لما بقولها أنتِ من كوكب تاني.

عن زعل يتحدث هو! كل ما في الأمر أنها لا توده دائمًا يشعرها باختلافها عنه لذلك بررت وهي تدثر “طمطم” بأحضانها:

-انا من نفس الكوكب بس أنت اللي ليك مصطلحات غريبة بحاول أفهمها

كاد أن يرد لولآ أن “شهد” قاطعته:

-خلاص يا”محمد ” وهي هتعرف منين كلامك ده بَطل و روح اعمل الشاي ومتنساش القرنفل

هز رأسه بشكل درامي وقال وهو مازال محتفظ ببسمته المشاكسة :

-أمري لله انا هروح بس حقنٍ للدماء وعلشان خاطر الحلو

انفجروا ضاحكين على دعابته أما هي فكانت تعلم انه يقصدها هي بالحلو لذلك كانت تشعر بسعادة عارمة كونها لأول مرة ترى ذلك الجانب المشاكس من شخصيته مما جعلها تهيم بأثره دون قصد

غافلة عن عيون “شهد”التي لاحظت ما يفيض من نظراتها وكم تمنت أن يكون حدسها صادق نحوها فقد أحبتها كثيرًا وراقها تواضعها وعفويتها الصادقة في التعامل معهم.

———————

كان في حالة من حالات الصراع النفسي تارة يعاتب ذاته على ما بدر منه بحقها وتارة يغشم حاله انه لم يخطأ وما حدث كان رد فعل لاستفزازها فهو لم يتعمد بتاتًا ما حدث ولكن عقله العقيم تناسى حديثها و مواجهتها الصريحة له بقناعتها التي تبدلت حتى حديث ذلك الطبيب له لم يعطيه اهتمام و هيأ له أنها سوف تتفهم أعذاره من أجل استقرار أطفالهم فهناك يقين راسخ داخله يخبره أنها مازالت تعشقه وسيصعب عليها تخطيه رغم ادعائها عكس ذلك

زفر حانقًا دخان سجارته التي لا يعلم عددها لليوم واستند بجذعه على أحد الارائك التي تتوسط ردهة منزله وقد قرر أن يبيت عليها اليوم ويفر من “منار” فلا ينقصه دلالها وحقًا لم يكن بمزاج راق كي يتودد لها او يراضيها الآن فعقله يضج بالكثير واخر ما ينقصه هي لتشتد مداهمة تلك الحرب الطاحنة برأسه وتكاد تفتك به، ويقرر أن يذهب في الغد بحجة أن يطمئن على أطفاله ويتسأل اين يمكثون أثناء تواجدها بالمشفى ويحاول أن يؤثر عليها ويقنعها بأعذاره وهو يعتقد أنها ستغفر له كما تفعل على الدوام عندما يقنعها انه لم يتعمد الأمر

غافل كون الحريق الذي انشبه بقلبها ألتهم كل شيء بأحشائها له ولم يتبقى حفنة واحدة كي تتشفع له.

————————-

عاد بها لقصر أبيها دون أن تتفوه بشيء طوال الطريق فقط بسمة هادئة تعتلى ثغرها وهي تتذكر تفاصيل يومها معه فلأول مرة تنعم بدفء اسري وترى ترابط صادق مفعم بالمحبة بهذا الشكل وكيف تفعل وهي ربيت وحيده وبين اسرة مفككة لم تحظى ابدًا في كنفهم بالاهتمام والدفء والسَكينة التي شعرت بها بمنزله البسيط. انتشلها من شرودها صوته الأجش:

-وصلنا يا “ميرال”

رفعت نظراتها له بتيه قبل أن تلحظ توقف السيارة بها أمام بوابة القصر لتجلس بزاوية المقعد كي تكون بمواجهته وتقول بإمتنان:

-شكرًا على اليوم الحلو ده بجد انبسطت معاكم اوي

هز رأسه ببسمة هادئة ثم تمتم بتلقائية:

-فعلًا كان يوم حلو و”شهد” اتبسطت انها اتعرفت عليكِ أصل من يوم الملاهي و”طمطم” مبطلتش كلام عنك

اتسعت بسمتها وهمست بعفوية شديدة بعدما تذكرت ذلك اليوم الذي طبع في ذاكرتها للأبد:

-يااااه اليوم ده كان حلو بشكل …تعرف إني عمري ما هنساه ابدًا

أَيدها بحركة من رأسه بينما هي استأنفت

بنبرة صادقة مفعمة بمكنون قلبها:

-أي حاجة بشاركك فيها بتبقى مميزة بالنسبالي و أي حاجة ليها علاقة بيك لازم احبها حتى أختك وبنتها حبتهم جدًا و كنت مبسوطة معاهم وكأني اعرفهم من سنين واتمنيت لو كُنت بنتمي ليك زيهم يا “حمود”

تلجم لسانه عندما خصته بذلك اللقب المحبب على قلبه وابتلع ريقه بحلق جاف لم يصدق أن تلميحها له أصبح أكثر وضوحًا بهذا الشكل، أتظنه غبي لهذا الحد! لا هو ليس كذلك فقد غرق بها منذ الوهلة الاولى ولكنه كان يجاهد كي يبدو عكس ذلك ولكن الآن تداعت عزيمته على الأخير ولم يبقى بها ذرة ثبات واحدة فلو عليه كان يود أن يصرح الآن ويعلن للعالم أجمع كونها هي من زلزلت قاع قلبه ونسبت ملكيتها له، ولكن ماذا يفعل إن تفوه بمشاعره ستكون بمثابة وعد صريح لها ولم يتعود أن ينقض الوعود وكيف لا يفعل وتلك الفوارق اللعينة تعيقه وتحيل بينه وبينها

أما هي فقد اصابها إحباط من عدم رده فكم ودت لو صرخت الآن بوجهه وأخبرته أنها لا تطيق حالة التلبد التي هو عليها ولكن خشيت ردة فعله فماذا لو لم يبادلها حقًا! هل سيظل صديقها كما يطلق على تقاربهم أم ستخسره حينها! حقًا هي تخشي أن تفقده لذلك تتعمد أن تلمح له وتنتظر ليبادر هو

ولكن يا ترى إلى متى سيدوم انتظارها

تنهدت تنهيدة مُسهدة بضجيج مشاعرها ثم قالت والإحباط يحتل معالم وجهها:

-تصبح على خير يا “حمود”

لم تنتظر أن يجيبها وتدلت من السيارة لتجد

زوجة ابيها تتربص بهم و تقف تربع كتفيها اعلى صدرها وتنظر لهم نظرات حادة مشتعلة أثناء اقترابها من موضع السيارة متسائلة بخبث:

-كنتِ فين وراجعة منين ولا هو علشان باباكِ مشغول بتستغلي الوضع وعايشه حياتك

قلبت “ميرال” عيناها واخبرتها بسام فأخر شيء ينقصها هي:

-ملكيش دعوة بيا لو سمحتي واظن بابي بنفسه قالك قبل كده متدخليش في اللي يخصني

قبضت “دعاء” على ذراعيها قائلة بحدة ما أن حاولت “ميرال” تخطيها:

-تعالي هنا عيب لما تسيبني وتمشي وانا بكلمك

نفضت “ميرال” يدها وصاحت بغيظ وهي تسير للداخل بخطوات واسعة:

-قولتلك ملكيش دعوة بيا

كان يشاهد ما يحدث من جلسته خلف المقود ولكنه لم يشأ أن يتدخل فتلك الصفراء لا يروقه طريقة حديثها بتاتًا ويغشى أن يزلف لسانه معها

ولكن لسوء حظه أنها بادرت بفتح باب السيارة وقالت بنبرة آمرة استفزته:

-انزل وقولي الهانم دي كانت فين؟

تدلى من السيارة وهو يلعن ذلك الموقف الغبي الذي وضعته به، فماذا يخبرها الان أيخبرها انها كانت بمنزله! لا بالطبع لن يفعل بل حاول ان يتصنع الجهل قائلًا:

-انا سواق مش دادة حضرتك وكل اللي بعمله إني استناها في المكان اللي بتقولي عليه لكن معرفش بتروح فين

اعتلى حاجب “دعاء” بغيظ وحذرته:

-اسمع أنا مش مرتحالك واظن أمرتك قبل كده توصلي كل تحركاتها بس أنت طنشت وانا صابرة عليك بس علشان اختك لكن قسم بالله لو ما تكلمت وقولتلي الهانم دي بتعمل ايه من ورانا لكون طرداك وقاطعة عيشك

جز على نواجذه بقوة كي يتحكم بلجام نفسه ولكن كان الأمر ليس بيسير عليه فقد وجد كبرياءه يصرخ قائلًا دون أي تفكير بعقابات شيء:

-قولتلك قبل كده الأرزاق على الله يا هانم وبعدين انتِ مش ولية أمرها ولو في حاجة أنا بنفسي هبلغ “فاضل” بيه ابوها

اغتاظت من حديثه وهدرت:

-بس أنا مرات باباها ومن حقي…

-لأ مش من حقك …انتِ مش أمها بلاش تعيشي دور مش بتاعك يا هانم…

قاطعها هو بحمئهةٍ ودفاع مستميت جعلها تهدر بتعالي وهي تستشيط غيظًا منه :

-انت واحد وقح وانا غلطانة إني عطفت على أمثالك أتفضل أنت مطرود واستغنينا عن خدماتك وياريت متورناش وشك تاني…

استغفر ربه بسره ثم قال وعينه يشتعل بها الغضب:

-تعرفي لو مكنتيش واحدة ست أنا كنت عرفت ارد عليكِ

شملته بنظرة متدنية وقالت باشمئزاز وهي تؤشر بسبابتها صعودًا وهبوطًا على هيئته:

-انا اللي غلطانة إني عملت قيمة لأمثالك

جز على نواجذه بقوة فلأول مرة يتعرض لموقف مشابه فقد تم اهانته والتقليل منه بشدة حتى أنها أشعرته بمدى ضئالته، لذلك رد بحمئةٍ شديدة وبدماء حامية:

-امثالي يا هانم اللي مش عجبينك كنتِ انتِ واحدة منهم ياريت متنسيش اصلك وإذا كان على الشغل يغور مبقاش يلزمني اصلًا

ليخرج مفتاح السيارة ويفتح التابلوه الخاص بها يخرج رخصتها ثم بكل كبرياء وعزة نفس ناولها إياهم قائلًا بنبرة قوية اجفلتها:

-شكرًا لعطف سَعادتك الله الغني يا هانم…

ذلك آخر ما تفوه به قبل أن يغادر ويقرر أن لا عودة من جديد بعد إهانته فحديث تلك الصفراء له كان بمثابة صفعة قوية ليعرف حجم ذاته.

ورغم صرخات قلبه بعدم ترك من ملكته إلا أنه أخذ يقنع ذاته أن ما حدث كان صائبًا ولابد أن يبتعد فتلك الفوارق الطبقية بينهم اسوارها عالية يصعب عليه تخطيها لذلك لايجب أن يغشم حاله اكثر ويغرق بها دون أمل.

———————

استيقظ في صباح اليوم التالي بمزاج عكر للغاية فأخذ حمام دافئ يساعد عضلاته المتشنجة وأعصابه المشدودة على الاسترخاء وحين انتهى لف خصره بأحد المناشف العريضة

ثم خرج لينتقي ملابس له كي يذهب ل “رهف” كي يبرر فعلته، ولكن عندما فتح الخزانة لم يجد شيء بها مما أثار حنقه للغاية وجعله يصيح بأسمها ولكن لم يأتيه رد لذلك خطى نحو غرفة نومهم وما أن فتح بابها وجدها تسقط في سبات عميق ولم تلقِ بال لشيء، وكزها بغيظ قائلًا:

-“منار” فين هدومي؟

تأففت هي اثناء نومها وسحبت الوسادة تضعها على وجهها قائلة والنعاس يسيطر عليها:

-افففف بقى عايزة انام بتصحيني ليه

احتدت نبرته وقال بحده وهو ينزع الوسادة عنها:

-قومي وكفاية دلع فين هدومي؟

تأففت من جديد ولوحت بيدها بلامبالاه واخبرته:

-يوووه لسة في الشنط

-بيعملوا ايه في الشنط لسه مش المفروض يترتبوا في الدولاب

نفخت هي أوداجها وقالت وهي تنفض الغطاء عنها كاشفة عن ذلك القميص النبيذي الذي يكشف أكثر مما يخفي .

-ده مش شغلي انا يا “سُونة” ده شغل الخدامة وأنت لغاية دلوقتي مجبتليش حد اعملك ايه يعني

لم يكن بمزاج يسمح له أن يلق بال لهيئتها، بل استغرب حديثها وقال وهو يعقد حاجبيه:

-افندم …أنتِ مراتي و ده شغلك وبعدين خدامة ليه انا متعودتش إن يكون حد غريب وسط بيتي ويقيد حريتي

تنهدت ثم قالت بعتاب وبنبرة متصنعة تدعي الحزن:

-انت مش بتحبني ومش بتفكر في راحتي…وبعدين مش كفاية مزعلني ومنكد عليا وانا لسه في شهر العسل

قالت آخر جملة وهي تخفي وجهها وتتصنع البكاء مما جعله يزفر حانقًا و يجاورها مبررًا:

-انا مش ناقص نكد واللي فيا مكفيني وبعدين انا جوزك مفهاش لو امتصيتِ غضبي واتحملتيني

رغم تبجحه حتى في تبريره ولكنها تداركت الأمر بدهاء بعدما ازاحت يدها عن وجهها وراحت تجلس على ساقيه هامسة بنبرة باكية:

-انا مش بحب العنف اوعدني متكررش اللي حصل ده تاني و تزعلني منك انا بحبك يا “سُونة”

قالت أخر جملة وهي تحاوط خصره وتستند برأسها على صدره العاري فما كان منه غير أن يشملها بذراعيه قائلًا:

-خلاص حقك عليا

هزت رأسها على صدره وهمست من جديد ولكن بنبرة مغوية وهي تتلمس بأناملها المطلية صدره:

-خلاص سامحتك… اصلك وحشتني اوي يا “سُونة”

ابتلع ريقه بتوتر وامسك يدها بين قبضتيه قبل أن تضطره أن ينجرف معها وتحجج قائلًا :

-انتِ كمان يا قلب “سُونة” وحشتيني بس أنا لازم انزل علشان عندي مشوار مهم

خرجت من بين يديه واعتلى حاجبيها بتساؤل:

-مشوار ايه إن شاء الله

أجابها وهو يحاول أن يبدو ثابت في رده كي يقنعها:

-هروح اشوف الولاد واطمن عليهم ومش هتأخر
(ميراكريم)
التوى ثغرها وزفرت قائلة:

-ماشي بس متتأخرش عليا علشان بتوحشني

أومأ لها ونهض من جانبها هادرًا:

-طب انا هروح اشوف فين الشنط وانتِ حضري الفطار

نفت برأسها واخبرته بلا مبالاة:

-انا مش بحب افطر لو انت عايز اعملك ساندوتش أنا هكمل نوم

قالتها وهي تتمدد من جديد وتوليه ظهرها ليزفر هو حانقًا ويتوجه للغرفة كي يفض الحقائب ويرتدي ملابسة وما إن انتهى اتاه صوت جرس الباب وتلاها خبطات قوية عليه جعلته يهرول متوعدًا :

-في ايه يا اللي بتخبط ما براحة…

ابتلع باقي صراخه بجوفه عندما فتح الباب و وجد اثنان من العساكر يرتدون الزي الرسمي ويقفون أمام باب منزله وقبل أن يسأل ماذا يريدون بادر واحد منهم قائلًا بنبرة قوية اجفلته:

-أنت “حسن طايل”

جف حلقه واجابه بعيون زائغة:

-ايوة أنا في ايه …

أجابه العكسري برسمية شديد وهو يباغته ويقبض على ذراعه ويسحبه للخارج:

-اتفضل معانا عندنا أوامر بظبطك وإحضارك للقسم فورًا

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية خطايا بريئة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى